اللغة ظاهرة بشرية عامة، بها يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات الأخرى،لأن لغة البشر وثيقة الصلة بالفكر،وهى كما يعرفها العالم اللغوي ابن جنى " إنها أصوات يُعبر بها كل قوم عن أغراضهم " فاللغة إذن ما هي إلا رموز صوتية منطوقة ومسموعة قبل أن تكون رموزاً مكتوبة مقروءة،فالنطق يأتي أولاً ثم يليه التدوين للألفاظ المنطوقة.
وللغة وظائف متعددة لعل أهمها ما ذكره ابن جنى في تعريفه لها حين قال ( يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ) ،فاللغة بمقتضى هذا التعريف : هى وسيلة التفاهم الاجتماعي والتواصل بين البشر ،يعبرون بها عن حاجاتهم المختلفة وأغراضهم المتعددة .
أيضا فإن للغة وظيفة أخرى وهى: التعبير عن المشاعر الإنسانية المتنوعة بالإضافة إلى وظيفتها الاجتماعية في المناسبات المختلفة التي تستعمل فيها تأكيداً للعلاقات القائمة بين البشر، ومن الحقائق المقررة التي لا مجال للشك فيها، ولا مناص من الاعتراف بها أن اللغة من أقوى مظاهر القومية وأبرز مقوماتها، وأنها في الوقت نفسه عنوان تقدمها، ومرآة ثقافتها، وأنها الأداة الفعالة التي بها يأخذ الخلف عن السلف معارفهم وثقافتهم.
فاللغة كائن حي صالح للنمو والتطور في كل زمان ومكان، وهى ظاهرة اجتماعية تخضع في نموها وتطورها لنمو البيئة التي تعيش فيها وتطورها، وليس اللغة العربية بدعا من اللغات، وليس أدل على ذلك من تاريخها، فهي لغة مرنة، فيها حيوية ذاتية تجعلها صالحة لأن تنمو نمواً ذاتياً استقلالياً، ولأن تساير الثقافة في نموها، والحضارة في نهضتها وتقدمها.
إن اللغة العربية لا ينقصها خصائص اللغة العلمية والحضارية ولا مقوماتها والذين يتهمون العربية بالعجز عن مجاراة التطورات الحضارية إنما يعترفون بعجزهم هم، فليس أدل من قول المستشرق الفرنسي ماسينيون : " إن المنهاج العلمي قد انطلق أول ما انطلق باللغة العربية ،ومن خلال العربية في الحضارة الأوربية ".
ومع ذلك فإن اللغة العربية المعاصرة بجانب ما هى فيه من محنة ،فإنها تعانى اليوم من أزمة حادة تتمثل في عزلة اللغة العربية بمفرداتها وكلماتها و أصالتها عما يجرى اليوم على الألسنة في كل مكان ،فالكثير مما نلبس وما نأكل وما نتداوى به وما نستخدمه من أدوات الصناعة والزراعة ومختلف الفنون أو مستوردًا مصنوعًا أو مصنوع بلفظه الأجنبي ،ويطلبه الناس بلفظه الدخيل على اللغة ،وأصبح كل ذلك جزءًا من حياتنا وتلك هى الخطورة الكامنة التي تحدق باللغة العربية والتي تدعو إلى وقفة صارمة قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا.
ومن المؤكد أن الأفكار والمعاني لا تعيش بمعزل عن الألفاظ والتعابير ،وكلما كان الإنسان متمكنا من اللغة ،عارفاً بأساليبها ودقائقها ،كان أقدر على التعبير عن مشاعره وأفكاره ،وأقوى على إفهام الآخرين مقاصده ومطالبه .
لقد كان التعريب في القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين شرطاً من شروط النهضة الحضارية، و ليس هناك من شك في أن لغتنا العربية – وهى لغة القرآن الكريم – قادرة تماماً على استيعاب مصطلحات الحضارة الحديثة بجميع أنواعها، ولا توجد أمامنا – الآن – من صعوبات سوى نقل المصطلحات العلمية والحضارية – ترجمة وتعريباً – إلى اللغة العربية، وهو ما تحتاج أن تقوم به مجامع اللغة العربية في الوطن العربي.
ومن الظواهر اللغوية المتعارف عليها أن مدلولات الكلمات القديمة تعيش جنباً إلى جنب مع مدلولاتها الجديدة، وهذه ظاهرة ينفرد بها المعنى ولا يشاركه فيها الأصوات أو القواعد النحوية والصرفية، لأن المعنى هو علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول.
ولأن الألفاظ والمصطلحات تنتمي من حيث أصولها اللغوية إلى عصور سابقة ومتفاوتة في القدم، إذ أن المصطلح الذي يكتسب معاني جديدة بعض الشيء خلال تعاقب الزمن، يستقر عند معنى محدد في وقت وإطار معينين،وإذا كان للفظ الواحد معنى عام مشترك ،فإنه يكتسب في سياق تاريخي اجتماعي معنى أكثر تمييزاً ودقة .
ولذلك فإن دراسة ( علم الآثار اللغوية ) أو ( الأركيولوجيا اللغوية ) -كما أنه يهدف إلى التنقيب عن الأصول اللغوية والتاريخية للألفاظ والمفردات والمصطلحات - فإنه يتجاوز إطار قواعد اللغة ليدخل في تركيب البني الاجتماعية التي تصلبت حول تعريفات ذات أبعاد متنوعة، لأن المشكلة لا تكمن في الماضي الذي انقضى، ولكنها تكمن في الحاضر المتصل والمستمر، في المفردات والمصطلحات التى لا تزال تشكل وعينا الإداري والسياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وفي الجملة فهى تشكل وعينا الحضاري في العصر الحاضر.
وهناك اللغة الفصيحة التى نستعملها في شئون الأدب والعلم والثقافة وغيرها، وإلى جانبها اللغة العامية التي نستعملها في الكثير من شئون حياتنا اليومية المعتادة في المحادثات، والمعاملات وغير ذلك.
ولكن إذا افترضنا أن اللغة العربية العامية – بجميع لهجاتها – يصح أن تقوم مقام اللغة الفصحى في التدوين، فلا يصح أن تتعدد لغة التدوين بتعدد جنسيات من يتكلم بالعربية، إذ يجب أن تكون لغة التدوين خالية من الشوائب التي اعترتها، وهذا ما لم يحدث في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي.
فإنها أيضا قد اشتملت على مسميات للآلاف من ( أدوات الحضارة ) التي استُخدمت منذ بدايات القرن التاسع عشر ومنها الكثير مما هو مستخدم في مصر حتى الآن.
فمن هذه المسميات والألفاظ ما تمس إليه حاجة الاستعمال في البيوت والشوارع والأسواق، وهى مسميات وألفاظ ومصطلحات شاعت وتعارف عليها بين أبناء الأمة الواحدة في مكان وزمان محددين، فأما المكان فهو مصر، وأما الزمان فيبدأ مع استهلال القرن التاسع عشر ويستمر حتى الآن.
ومن الملاحظ أن هذه الألفاظ للأدوات المستخدمة في مصر كانت أما دخيلة على اللغة العربية، وإما مشتقة من أصول عربية فصيحة قد اندثرت أو تغيرت أو تطورت مع التطور الاجتماعي والحضاري الذي لازمه التطور اللغوي لهذه الألفاظ.
وقد نشأت الألفاظ الحضارية الدخيلة والمعربة نتيجة للاحتكاك المباشر بين المصريين وبين غيرهم من الأجانب – وهو أحد الأسباب الخارجية للتطور اللغوي، وهو ما أدى إلى ازدهار حركة الترجمة والتعريب التي ساهمت بشكل أو بآخر في التعريف بحضارة الآخرين وثقافتهم، وبذلك تمكنت الثقافة واللغة العربية من تجاوز المحيط المحلي للانفتاح انفتاحاً واعياً وثابتاً على آفاق حضارية أرحب، وهو ما نأمله في وقتنا الراهن.
وتعد الثياب مظهر حضاري من مظاهر القومية، وهى إحدى المقومات التى تصور كيان الأمة وشخصيتها، بل هى أول الشخصيات التى تلفت نظر الرجل العادي الذى لا يعرف كثيراً من سمات الفن أو العمارة أو الأدب أو الموسيقى وغيرها مما تتميز به حضارة أية أمة .
والثياب وليدة طبيعة البلاد ،ومظهر أفراد الشعب ،وهى عنوان أمين وصادق لروح الأمة وتطورها ،في مجالي الابتكار والرُقي.
ومما لاشك فيه أن الثياب ذات صفات مختلفة من الجودة والرداءة، والنعومة والخشونة، كما أن أنواع الملابس وألوانها المختلفة، ومصادرها سواء كانت محلية أو خارجية، وأثمانها سواء كانت رخيصة الثمن أو غالية، هذه الفروق بذاتها تعتبر مؤشراً للتعرف على الجوانب المختلفة لحالة المجتمع المادية في هذا العهد أو ذاك من حيث الرخاء أو عدمه.
وقد أوضحت الوثائق التاريخية التغييرات التي طرأت على الثياب وكل ما يتعلق بها من أقمشة وألوان وأدوات حياكة وطرق تطريز وغير ذلك مما كان مستخدماً، وظل مستخدماً في مصر حتى الآن.
فقد تبدلت أسماء بعض الملابس مع كونها تؤدي نفس الغرض مثل ( الساكو والبلطو والمعطف ) نتيجة لتطور وتغير دلالتها اللفظية والصوتية، وكذلك ظهرت بعض الأسماء الأخرى لأول مرة في مصر مثل ( الفستان والبنطلون ) ،كما أن أنواعاً من الأزياء كان قد بطل استعمالها مع نهاية القرن التاسع عشر مثل ( اليلك ) وأنواع من الثياب وردت بأسماء لا نعرفها الآن مثل ( الكركة ) ،و ( ألدوان ) ولكنها كانت مستخدمة ومعروفة آنذاك .
أيضا فقد وردت ألفاظ المترادفات من الأسماء لنوع واحد من الملابس مثل ( قسومة و شبشب ) و( طقم وكسوة ) و(ياقة ورقبة )، وأسماء لملابس عسكرية مثل ( أسباليطة، وتُزلك، و طقم آلاي... الخ )، ومن الأسماء التي ما زالت مستخدمة حتى الآن مثل ( فستان، وعقال، وعمامة، وعباءة.... إلخ ).
كما وردت في تلك الوثائق ألفاظ لملابس اختص بلبسها الأوربيون في القرن التاسع عشر ثم بدأت تنتشر عند عامة الشعب مثل ( القنطوش، والفستان، والجونتي )، أيضا فقد وردت مسميات بمترادفات أجنبية بلفظها ومعربة مثل شروال الفارسية وسروال المعربة )، كذلك فقد تضمن المعجم أنواعاً من الأقمشة التي استخدمت في صناعة هذه الثياب مثل البفتة، والجوخ، والصوف، والكتان، والشيت، والقطن... إلخ )، ومن الألوان الأبيض، الأسود، الطحيني، والأزرق.... إلخ )، ومن الأدوات المستخدمة في الحياكة ( الإبرة، والمقص، وماكينة الخياطة،.... إلخ )، ومن طرق التطريز ( شغل الإبرة وشغل الطارة ) .
وهذه المسميات والألفاظ إنما تدل فيما تدل عليه ،عن مدى التطور والتنوع الذي طرأ على الملابس المدنية للرجال والنساء ،والملابس العسكرية في مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي .
ونجد أن بعض الكلمات الدخيلة كتبت بحروف عربية ،وهو الأمر الذي يصعب معه دراسة أصوات هذه الكلمات في أصولها ،لأنه عند تعريب هذه الكلمات يتم تمثيلها كاملة بحروف عربية مثل ( تُبان المعربة بدلاً من تنبان الفارسية ) ،( وجنفس المعربة بدلاً من Virra اليونانية ) وغير ذلك من الأمثلة .
ولقد استخدمت الأساليب المختلفة لإثراء اللغة العربية ومنها الاشتقاق والنحت والقياس وغير ذلك مثل استخدامهم لكلمة ( جلابية ) للقمصان التى كان يرتديها الجلابة أو تجار الرقيق ،وكلمة ( الحبكة ) من (حبك الشيء) أي ضمه وشده وأحكمه ،و ( دفية ) من دفئية من الدفء وهى من ملابس الرجال .
كما تأثرت ( الأبجدية الإملائية أو الصوتية )- وهي النظام الذي يستعمل في الكتابة العادية في الحياة اليومية ويشترط فيه تمثيل النطق تمثيلاً صحيحاً لألفاظ الحضارة الواردة بالوثائق عند تدوينها ،مثل تدوينهم ( روصاصي بدلا من رَّصاصي ) ،و ( كتن بدلاً من قطن ) و ( قبطة بدلاً من قُبطية ) ،و ( فنلة وفينلة بدلاً من فانلة ) ،و ( غروال وسروال بدلاً من شروال ) ،وغير ذلك الكثير من الأمثلة .
وللغة وظائف متعددة لعل أهمها ما ذكره ابن جنى في تعريفه لها حين قال ( يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ) ،فاللغة بمقتضى هذا التعريف : هى وسيلة التفاهم الاجتماعي والتواصل بين البشر ،يعبرون بها عن حاجاتهم المختلفة وأغراضهم المتعددة .
أيضا فإن للغة وظيفة أخرى وهى: التعبير عن المشاعر الإنسانية المتنوعة بالإضافة إلى وظيفتها الاجتماعية في المناسبات المختلفة التي تستعمل فيها تأكيداً للعلاقات القائمة بين البشر، ومن الحقائق المقررة التي لا مجال للشك فيها، ولا مناص من الاعتراف بها أن اللغة من أقوى مظاهر القومية وأبرز مقوماتها، وأنها في الوقت نفسه عنوان تقدمها، ومرآة ثقافتها، وأنها الأداة الفعالة التي بها يأخذ الخلف عن السلف معارفهم وثقافتهم.
فاللغة كائن حي صالح للنمو والتطور في كل زمان ومكان، وهى ظاهرة اجتماعية تخضع في نموها وتطورها لنمو البيئة التي تعيش فيها وتطورها، وليس اللغة العربية بدعا من اللغات، وليس أدل على ذلك من تاريخها، فهي لغة مرنة، فيها حيوية ذاتية تجعلها صالحة لأن تنمو نمواً ذاتياً استقلالياً، ولأن تساير الثقافة في نموها، والحضارة في نهضتها وتقدمها.
إن اللغة العربية لا ينقصها خصائص اللغة العلمية والحضارية ولا مقوماتها والذين يتهمون العربية بالعجز عن مجاراة التطورات الحضارية إنما يعترفون بعجزهم هم، فليس أدل من قول المستشرق الفرنسي ماسينيون : " إن المنهاج العلمي قد انطلق أول ما انطلق باللغة العربية ،ومن خلال العربية في الحضارة الأوربية ".
ومع ذلك فإن اللغة العربية المعاصرة بجانب ما هى فيه من محنة ،فإنها تعانى اليوم من أزمة حادة تتمثل في عزلة اللغة العربية بمفرداتها وكلماتها و أصالتها عما يجرى اليوم على الألسنة في كل مكان ،فالكثير مما نلبس وما نأكل وما نتداوى به وما نستخدمه من أدوات الصناعة والزراعة ومختلف الفنون أو مستوردًا مصنوعًا أو مصنوع بلفظه الأجنبي ،ويطلبه الناس بلفظه الدخيل على اللغة ،وأصبح كل ذلك جزءًا من حياتنا وتلك هى الخطورة الكامنة التي تحدق باللغة العربية والتي تدعو إلى وقفة صارمة قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا.
ومن المؤكد أن الأفكار والمعاني لا تعيش بمعزل عن الألفاظ والتعابير ،وكلما كان الإنسان متمكنا من اللغة ،عارفاً بأساليبها ودقائقها ،كان أقدر على التعبير عن مشاعره وأفكاره ،وأقوى على إفهام الآخرين مقاصده ومطالبه .
لقد كان التعريب في القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين شرطاً من شروط النهضة الحضارية، و ليس هناك من شك في أن لغتنا العربية – وهى لغة القرآن الكريم – قادرة تماماً على استيعاب مصطلحات الحضارة الحديثة بجميع أنواعها، ولا توجد أمامنا – الآن – من صعوبات سوى نقل المصطلحات العلمية والحضارية – ترجمة وتعريباً – إلى اللغة العربية، وهو ما تحتاج أن تقوم به مجامع اللغة العربية في الوطن العربي.
ومن الظواهر اللغوية المتعارف عليها أن مدلولات الكلمات القديمة تعيش جنباً إلى جنب مع مدلولاتها الجديدة، وهذه ظاهرة ينفرد بها المعنى ولا يشاركه فيها الأصوات أو القواعد النحوية والصرفية، لأن المعنى هو علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول.
ولأن الألفاظ والمصطلحات تنتمي من حيث أصولها اللغوية إلى عصور سابقة ومتفاوتة في القدم، إذ أن المصطلح الذي يكتسب معاني جديدة بعض الشيء خلال تعاقب الزمن، يستقر عند معنى محدد في وقت وإطار معينين،وإذا كان للفظ الواحد معنى عام مشترك ،فإنه يكتسب في سياق تاريخي اجتماعي معنى أكثر تمييزاً ودقة .
ولذلك فإن دراسة ( علم الآثار اللغوية ) أو ( الأركيولوجيا اللغوية ) -كما أنه يهدف إلى التنقيب عن الأصول اللغوية والتاريخية للألفاظ والمفردات والمصطلحات - فإنه يتجاوز إطار قواعد اللغة ليدخل في تركيب البني الاجتماعية التي تصلبت حول تعريفات ذات أبعاد متنوعة، لأن المشكلة لا تكمن في الماضي الذي انقضى، ولكنها تكمن في الحاضر المتصل والمستمر، في المفردات والمصطلحات التى لا تزال تشكل وعينا الإداري والسياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وفي الجملة فهى تشكل وعينا الحضاري في العصر الحاضر.
وهناك اللغة الفصيحة التى نستعملها في شئون الأدب والعلم والثقافة وغيرها، وإلى جانبها اللغة العامية التي نستعملها في الكثير من شئون حياتنا اليومية المعتادة في المحادثات، والمعاملات وغير ذلك.
ولكن إذا افترضنا أن اللغة العربية العامية – بجميع لهجاتها – يصح أن تقوم مقام اللغة الفصحى في التدوين، فلا يصح أن تتعدد لغة التدوين بتعدد جنسيات من يتكلم بالعربية، إذ يجب أن تكون لغة التدوين خالية من الشوائب التي اعترتها، وهذا ما لم يحدث في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي.
فإنها أيضا قد اشتملت على مسميات للآلاف من ( أدوات الحضارة ) التي استُخدمت منذ بدايات القرن التاسع عشر ومنها الكثير مما هو مستخدم في مصر حتى الآن.
فمن هذه المسميات والألفاظ ما تمس إليه حاجة الاستعمال في البيوت والشوارع والأسواق، وهى مسميات وألفاظ ومصطلحات شاعت وتعارف عليها بين أبناء الأمة الواحدة في مكان وزمان محددين، فأما المكان فهو مصر، وأما الزمان فيبدأ مع استهلال القرن التاسع عشر ويستمر حتى الآن.
ومن الملاحظ أن هذه الألفاظ للأدوات المستخدمة في مصر كانت أما دخيلة على اللغة العربية، وإما مشتقة من أصول عربية فصيحة قد اندثرت أو تغيرت أو تطورت مع التطور الاجتماعي والحضاري الذي لازمه التطور اللغوي لهذه الألفاظ.
وقد نشأت الألفاظ الحضارية الدخيلة والمعربة نتيجة للاحتكاك المباشر بين المصريين وبين غيرهم من الأجانب – وهو أحد الأسباب الخارجية للتطور اللغوي، وهو ما أدى إلى ازدهار حركة الترجمة والتعريب التي ساهمت بشكل أو بآخر في التعريف بحضارة الآخرين وثقافتهم، وبذلك تمكنت الثقافة واللغة العربية من تجاوز المحيط المحلي للانفتاح انفتاحاً واعياً وثابتاً على آفاق حضارية أرحب، وهو ما نأمله في وقتنا الراهن.
وتعد الثياب مظهر حضاري من مظاهر القومية، وهى إحدى المقومات التى تصور كيان الأمة وشخصيتها، بل هى أول الشخصيات التى تلفت نظر الرجل العادي الذى لا يعرف كثيراً من سمات الفن أو العمارة أو الأدب أو الموسيقى وغيرها مما تتميز به حضارة أية أمة .
والثياب وليدة طبيعة البلاد ،ومظهر أفراد الشعب ،وهى عنوان أمين وصادق لروح الأمة وتطورها ،في مجالي الابتكار والرُقي.
ومما لاشك فيه أن الثياب ذات صفات مختلفة من الجودة والرداءة، والنعومة والخشونة، كما أن أنواع الملابس وألوانها المختلفة، ومصادرها سواء كانت محلية أو خارجية، وأثمانها سواء كانت رخيصة الثمن أو غالية، هذه الفروق بذاتها تعتبر مؤشراً للتعرف على الجوانب المختلفة لحالة المجتمع المادية في هذا العهد أو ذاك من حيث الرخاء أو عدمه.
وقد أوضحت الوثائق التاريخية التغييرات التي طرأت على الثياب وكل ما يتعلق بها من أقمشة وألوان وأدوات حياكة وطرق تطريز وغير ذلك مما كان مستخدماً، وظل مستخدماً في مصر حتى الآن.
فقد تبدلت أسماء بعض الملابس مع كونها تؤدي نفس الغرض مثل ( الساكو والبلطو والمعطف ) نتيجة لتطور وتغير دلالتها اللفظية والصوتية، وكذلك ظهرت بعض الأسماء الأخرى لأول مرة في مصر مثل ( الفستان والبنطلون ) ،كما أن أنواعاً من الأزياء كان قد بطل استعمالها مع نهاية القرن التاسع عشر مثل ( اليلك ) وأنواع من الثياب وردت بأسماء لا نعرفها الآن مثل ( الكركة ) ،و ( ألدوان ) ولكنها كانت مستخدمة ومعروفة آنذاك .
أيضا فقد وردت ألفاظ المترادفات من الأسماء لنوع واحد من الملابس مثل ( قسومة و شبشب ) و( طقم وكسوة ) و(ياقة ورقبة )، وأسماء لملابس عسكرية مثل ( أسباليطة، وتُزلك، و طقم آلاي... الخ )، ومن الأسماء التي ما زالت مستخدمة حتى الآن مثل ( فستان، وعقال، وعمامة، وعباءة.... إلخ ).
كما وردت في تلك الوثائق ألفاظ لملابس اختص بلبسها الأوربيون في القرن التاسع عشر ثم بدأت تنتشر عند عامة الشعب مثل ( القنطوش، والفستان، والجونتي )، أيضا فقد وردت مسميات بمترادفات أجنبية بلفظها ومعربة مثل شروال الفارسية وسروال المعربة )، كذلك فقد تضمن المعجم أنواعاً من الأقمشة التي استخدمت في صناعة هذه الثياب مثل البفتة، والجوخ، والصوف، والكتان، والشيت، والقطن... إلخ )، ومن الألوان الأبيض، الأسود، الطحيني، والأزرق.... إلخ )، ومن الأدوات المستخدمة في الحياكة ( الإبرة، والمقص، وماكينة الخياطة،.... إلخ )، ومن طرق التطريز ( شغل الإبرة وشغل الطارة ) .
وهذه المسميات والألفاظ إنما تدل فيما تدل عليه ،عن مدى التطور والتنوع الذي طرأ على الملابس المدنية للرجال والنساء ،والملابس العسكرية في مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي .
ونجد أن بعض الكلمات الدخيلة كتبت بحروف عربية ،وهو الأمر الذي يصعب معه دراسة أصوات هذه الكلمات في أصولها ،لأنه عند تعريب هذه الكلمات يتم تمثيلها كاملة بحروف عربية مثل ( تُبان المعربة بدلاً من تنبان الفارسية ) ،( وجنفس المعربة بدلاً من Virra اليونانية ) وغير ذلك من الأمثلة .
ولقد استخدمت الأساليب المختلفة لإثراء اللغة العربية ومنها الاشتقاق والنحت والقياس وغير ذلك مثل استخدامهم لكلمة ( جلابية ) للقمصان التى كان يرتديها الجلابة أو تجار الرقيق ،وكلمة ( الحبكة ) من (حبك الشيء) أي ضمه وشده وأحكمه ،و ( دفية ) من دفئية من الدفء وهى من ملابس الرجال .
كما تأثرت ( الأبجدية الإملائية أو الصوتية )- وهي النظام الذي يستعمل في الكتابة العادية في الحياة اليومية ويشترط فيه تمثيل النطق تمثيلاً صحيحاً لألفاظ الحضارة الواردة بالوثائق عند تدوينها ،مثل تدوينهم ( روصاصي بدلا من رَّصاصي ) ،و ( كتن بدلاً من قطن ) و ( قبطة بدلاً من قُبطية ) ،و ( فنلة وفينلة بدلاً من فانلة ) ،و ( غروال وسروال بدلاً من شروال ) ،وغير ذلك الكثير من الأمثلة .