د. عصام أحمد عيسوى
كلية الآداب – جامعة القاهرة
عرف الناطقون بالضاد قديما أنها أفصح اللغات، وكاد الفخر بها أن يتمادى إلي إنكار الفصاحة على سائر اللغات، واللغة العربية قد تولاها في بداية القرن العشرين أناس من غير أبناء الضاد، فبهت هؤلاء الأجانب وهم يقفون أمام الطاقات العظيمة للغة العربية في استيعاب المعارف الأوربية بقدرة هائلة، وتأكدنا نحن من عراقة لغتنا بين لغاتهم الشائعة . ولأن اللغة هي وعاء العلم والمعرفة، ووسيلة التعليم والتعلم، وأداة التفاهم والتواصل بين الناس، وهو ما أدركه المؤسسون الأول للجامعة المصرية، لذلك فقد أشتمل القانون الأساسي لتنظيم الجامعة على عدد من البنود والفقرات التي أكدت على أهمية التدريس باللغة العربية والاهتمام بها " لتنمية مدارك المصريين" فقد أقر القانون أن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس والتعلم والتعليم ، ومنذ أن تأسس قسم للآداب بالجامعة تقرر أن يكون "أساس التعليم فيه بلغة البلاد فكانت ثمانية علوم إجبارية تدرس باللغة العربية وعلمين فقط اختياريين باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية". كما قررت الجامعة منح الجوائز لأصحاب المؤلفات العلمية أو الأدبية باللغة العربية فقط، وتكليف عدد من أساتذتها بترجمة " بروجرامات الآداب الفرنسية والآداب الإنجليزية والفنون إلي اللغة العربية لأجل نشرها وطباعتها باللغة العربية". وفي اعتقادي أن هؤلاء المؤسسون الأول للجامعة قد تيقظوا – في ظل ظروف الاحتلال الانجليزي – إلي دور ووظيفة اللغة في التعليم، وإيمانهم بأن اللغة ليست لغة للتعلم فقط ولكنها لغة للثقافة والحضارة، وأنه من الضروري أن تشترك لغة الثقافة مع لغة الأمة حتى لا تنهار الشخصية الوطنية، ويجب إلا تنفصل لغة العلم عن لغة الثقافة حتى لا تصاب الأمة بفصام ثقافي . ولكن مع ذلك فلم يغفل هؤلاء المؤسسون دور اللغات الأجنبية والأجانب في التعليم والتعلم ، فالوثائق والمستندات الرسمية تؤكد بشكل واضح وجلي على أن الجامعة قد أقرت تدريس بعض اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية والفرنسية لأبناء الجامعة ، والاعتماد على هاتين اللغتين في التدريس لبعض العلوم التي انتدب لتدريسها عدد من الأجانب الذين نبغوا في بلادهم، إلا أن الجامعة قد واجهت هذا الإجراء الاستثنائي بتحديد الجوائز والمكافآت للطلاب الذين يقوم بترجمة الدروس التي تلقي عليهم من أساتذتهم الأجانب إلي اللغة العربية، لتنشرها الجامعة باللغة الأم بين أبناء الوطن . وعلى الرغم من أن اللغة العربية كانت هي أساس التعليم بالجامعة المصرية، إلا أن الأجانب المقيمين في مصر وجدوا فيها ضالتهم من التعليم، فقد التحق بها منذ سنواتها الأولى الأجانب من جميع الجنسيات فكان منهم الإنجليز والفرنسيون والألمان والإيطاليون والأسبان والروس واليونانيون والسويسريون والهولنديون والبلجيك والأتراك (العثمانيون) والهنود والأرمن وغيرهم من جنسيات العالم، وكانت تزكية أساتذتهم بعد " التأكد من مقدار معارفهم" شرطا لقبولهم بالجامعة بعد مضي الشهر الأول من الالتحاق . كما أن الجامعة المصرية قد شرفت عدد من الأجانب المقيمون في مصر بعضوية لجانها العلمية والفنية وهم ممن أظهروا فيهم لأبناء مصر، وتطلعهم لإنجاح هذا المشروع المصري الخالص، فكان منهم المسيو ماسبيرو مدير الأنتكخانات المصرية والقانوني لوزينا بك وغيرهم من الأجانب . ولأن الجامعة المصرية الوليدة كانت تحتاج لعلوم الغرب لتنمية قدرات المصريين العلمية ، لذلك فقد أوفدت المبعوثين في بعثات متتالية بدأت منذ العام الأول لإنشائها، فانتشروا هؤلاء المصريون في دول أوربا المختلفة ينهلون من علومهم وخبراتهم، ويعودون الواحد تلو الآخر إلي أرض الوطن وأبنائه يعلمونهم ما تحصلوا عليه باللغة العربية التي اعتبرت آنذاك – كما تشير الوثائق – أنها " الواسطة في نشر المعارف وترقية العلوم بين الناطقيين بالضاد لكي ترتقي اللغة العربية بهذه الوسيلة". فهم كانوا على يقين من أن التعليم باللغات الأجنبية يضعف دور اللغة الأم في تنمية المدارك وتطوير العلوم، ويقلل من الطلب على المراجع والمصطلحات باللغة الوطنية وبالتالي يقلل إنتاجها، ومن ثم يشعر الدارسون والمدرسون بنقص هذه المواد الأساسية بالمقارنة بمثيلاتها الأجنبية . والإلتزام بتدريس العلوم باللغة العربية يجعلها لا تلقي الغربة في بلادها، وهو ما يؤدي بالضرورة إلي أن يكون التكوين العلمي والفكري لأبنائها مصريًا عربيًا. والحقيقية أنني لست أخوض في قضايا التعريب والتغريب التي خاض فيها الكثيرين من قبل دون تطبيقات عملية واضحة على أرض الواقع، ولكنني أشير فقط إلي حقائق تاريخية مدعومة بالوثائق الرسمية تؤكد على أن الجامعة المصرية ، بل الأمة بأثرها ممثلة في جميع طوائفها قد استمدوا قوة الدفع الأولى لإنشاء هذه الجامعة الوليدة من اللغة العربية للنهضة بأبناء مصر ، ورفعتهم ودفعهم للأمام . فموضوع اللغة العربية واستخدامها في التدريس الجامعي والتعليم العالي من الموضوعات المهمة التي تناولتها العديد من المؤتمرات والندوات والمقالات والكتب ، وتناولها كبار المفكرين والمؤلفين، وهو ما تم حسمه منذ الأيام الأولى لإنشاء الجامعة المصرية باعتبار أن اللغة العربية هي لغة التعليم الجامعي، فتقررت بذلك مبادئ مهمة وهي احترام اللغة واحترام الهوية واحترام الوطنية، حتى أن اعتماد الجامعة على الأجانب وعلومهم بلغاتهم كان من أجل النهوض بالتعليم العام في مصر من خلال اللغة العربية، والنهوض باللغة العربية ورقيها من خلال التعليم العالي الجامعي.